شرح كتاب العظمة المجموعة الثانية
الغيب بين الإنكار والتأييد
...............................................................................
طائفة من الفلاسفة يقال لهم: السمنية ذكرهم الإمام أحمد اسم> -رحمه الله- في رسالته المطبوعة التي اسمها الرد على الجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وذلك لأنه لما تكلم على الجهم اسم> الذي هو أول من اشتهر بهذا المذهب الذي هو مذهب التعطيل, ذكر أنه لقي قوما من السُّمنية, ولما لقوه أخذوا يسألونه عن عقيدته فقال لهم: أنا عبد لله, أنا أعبد الله ربي الله فقالوا له: هل رأيت ربك بعينيك؟ فقال: لا، فقالوا له: هل سمعت كلامه بأذنيك؟ قال: لا، فقالوا: هل مسسته بيديك؟ فقال: لا، فقالوا: هل طعمته؟ هل شممته؟ فقال: لا, فقالوا: إذن هو معدوم. فأوقعوه في الشك والحيرة، ثم بقي نحو أربعين يوما لا يصلي شاكا في عقيدته, ثم إنه قال لرئيس السمنية: هل لك روح يحيا بها جسدك؟ قال: نعم, فقال: هذه الروح هل رأيتها؟ هل سمعتها؟ هل مسستها؟ هل طعمتها؟ هل شممتها؟ فقال: لا، فقال فكيف تقر بأن لك روحا؟!
فعند ذلك تفكر هؤلاء السمنية في أنه يمكن أن يكون واجب الوجود موجودا وإن لم تدركه الحواس, فعند ذلك اصطلحوا معه على هذه الصفة التي اصطلحوا عليها وهو اصطلاحهم على أن الله تعالى موجود ولكن ليس وجوده كوجود المخلوقين, فأنكروا بعد ذلك جميعا أن يكون فوق أو تحت أو يمين أو شمال أو أمام أو خلف! وقالوا: إنه إذا كان كذلك فإنه يكون شبيها بالمخلوقات، ثم بعد ذلك بالغوا في إنكار هذه الصفات.
فهذا معتقد هؤلاء الذين ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات, يوجد آخرون ينكرون الحسيات المحسوسة كالتي يشاهدونها, ينكرونها ولكن إنكارهم على وجه العناد, معاندين عنادا ظاهرا في إنكار هذه المحسوسات، وهذه الموجودات؛ بحيث إن أحدهم يشاهد ولده ويقول: يمكن أن هذا ولدي، ويمكن أنه ليس ولدي, يمكن أن يكون هذا أبي, أو غير أبي!! يمكن أن هذا إنسان, ويمكن أنه ثور, أو أنه بعير!! لا أجزم بأن هذا الذي أمامي إنسان, يمكن أني موجود أو غير موجود!! حتى يشك في وجود نفسه! فمثل هؤلاء الذين ينكرون المحسوسات لا حيلة في إقناعهم إلا أن يُضْرَبُوا، ويقال: هل هذا حقيقة؟ هل هذا الضرب حقيقة أم ليس بحقيقة؟ فلا بد أن يعترفوا بعد ذلك ويقروا بأنه مؤلم وأنه ضرب!! نقول: إن هؤلاء لا يؤمنون بالغيب, بل ولا يؤمنون بالْمُشَاهد.
فأهل الإيمان الصحيح, وأهل الاعتقاد السليم هم الذين يُقِرُّون بما أخبر به الرب تعالى، يعترفون حقيقة بما أخبروا به من الأمور الغيبية, وإن لم تدركه حواسهم.
يوجد أيضا في هذه الأزمنة مَنْ ينكرون وجود الجن, ووجود الشياطين ويقولون: لو كانوا موجودين لرأيناهم بالمجهر، هذا المجهر الذي يجعل الذرة كالقبة, لماذا لا يتصور فيه هؤلاء الجن؟ أين هم؟ لماذا لا نراهم؟ ولماذا لا نرى الشيطان؟ كيف يكون موجودا؟ وكيف يكون معنا؟ وكيف يكون الملائكة معنا عن يمين الإنسان وعن شماله؟ ومع ذلك لا نُحِس بهم, ولا نراهم؟
فيكذبون بالملائكة وبالجن وبالشياطين؛ لأنهم -في زعمهم- ما رأوهم ولا أدركوهم بحواسهم، ولا شك أن هذا تكذيب لخبر الله, الله تعالى أخبر وهو سبحانه الصادق في خبره فلا بد أن يصدق ما أخبر به من هذه الأمور الغيبية، وإن لم تدركها الحواسُّ, وإن خفيت على الحواس أو على المعلومات الظاهرة؛ وذلك لأن الله تعالى خلق الأرواح, وخلق الأجساد, وجعل كُلّا له نوع, وله إدراك, وخلقه لهذه الأرواح دليل على كمال قدرته, أنه قادر على كل شيء.
هذه الأرواح لا نشاهدها, ومع ذلك نصدق بوجودها، فنصدق بأن الإنسان مركب من جسد وروح, وأن هذه الروح هي التي تعمر هذا الجسد, وبها يكون متحركا وبنزعها يكون هامدا، يقال في الميت: خرجت روحه, بقي جسده ليس به حركة, روحه عندما خرجت هل رأيناها؟ نتحقق أنها خرجت عند موته, ولكن لا ندركها؛ هي من عالم الغيب، وكذلك نصدق بجنسها فنقول: إن الجن أرواح ليس لهم أجساد, ومع ذلك فإنهم يموتون.. الروح التي هي هذا المتحرك الذي هو الجان, يمكن أنه له جسد يناسبه، وإن كنا لا نراه ثم إذا قدر الله تعالى عليه الموت مات، يشاهد أن الجني يموت, فلا بد أن يكون هناك ما يموت به, أن هناك شيئا يخرج منه حتى يكتب مع الأموات, وكذلك أيضا لا بد أن الشياطين يموتون وأن الملائكة يموتون.
ورد في الحديث في الدعاء المشهور، أنه صلى الله عليه وسلم قال في دعائه: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
كذلك بقية المخلوقات التي لها أرواح ولها أجساد, منها ما هو كبير كالفيل ونحوه, ومنها ما هو صغير كالذرة والبعوضة، الكل لها جسد وروح, يعني هذه الذرة لها روح تناسبها، إذا ماتت خرجت تلك الروح, ولو كانت صغيرة تناسبها, نعتقد أن هذه الأرواح, أي: إذا خرجت من الإنسان أنها لا تفنى, بل إنها باقية, وموتها هو مفارقتها لهذا الجسد, إذا خرجت من هذا الجسد صدق عليها أنها ماتت. فقوله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
فكل ذلك داخل في الإيمان بالغيب, حيث إننا نُخبر بها خبرا صادقا من الله تعالى, ونصدق بذلك الخبر, ونبني عليه صحة ما أُخبرنا به, أُخبرنا في الأحاديث بأن هناك عذابا ونعيما في البرزخ؛ ويسمى عذاب القبر، وإن كان القبر في أعيينا لا نشاهد فيه شيئا, يعني: قد يبحث عن الميت بعد يوم أو بعد يومين, فيوجد على حالته التي وضع عليها ما تغير؛ وذلك لأن الحساب والعذاب على الروح.
وأما الجسد فإنه عادة يفنى يكون ترابا، وقد يوصل الله تعالى -ولو كان ترابا- ما يناسبه من العذاب أو من النعيم، وأما الروح فإنها باقية..
أولا: أنها مخلوقة من خلق الله تعالى.
ثانيا: أنها بعد الموت, موتها: مفارقتها لهذا الجسد، ثم ينالها الحساب وينالها العذاب, وينالها الثواب الذي تستحقه في هذا البرزخ. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهداء أرواحهم خرجت من أجسادهم يقول: إن أرواحهم جعل لها أجساد خاصة, جعل لها أجساد, جعلت في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة. هذا من خصائص الشهداء، لأن الله تعالى أخبر بأنهم أحياء في قوله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ولهذا في عقيدة السفاريني اسم> يقول:
وأن أرواح الورى لم تعدم | مع كونها مخلوقة فاسـتفهم |
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ينكر ذلك كثير من الفلاسفة وأشباههم ويقول: أين الملائكة؟ لو كانوا عن يميني أو عن يساري أو على منكبي لأحسست بهم, ولسمعتهم, أين هم؟! نقول: أنت في عالم, وهم في عالم, أنت جسد وروح, وهم أرواح لا تُحِسُّ بهم, وكذلك يكتبون ما تقوله وأنت لا تدري, فعليك أن تُصَدِّقَ بكل ما أُخبرت به وإن لم يدركه بصرك.
فالحاصل: أننا نؤمن بما أخبر الله، ومن جملة ذلك الخبر عن الملائكة أنهم خلق من خلق الله تعالى. سمى الله تعالى منهم خازن النار مالك اسم> قال الله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ورد في حديث أنه يوم القيامة يجاء بالنار رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ومع ذلك هذا عددهم نصدق بأن للجنة خزنة في قوله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
لا شك أن هذا كله دليل على أن هؤلاء الملائكة خلق من خلق الله تعالى، نعرف ونتحقق أنهم موجودون وإن كنا لا نشاهدهم.
فالذين يُكَذِّبُون بوجود الشياطين, وبوجود الجن, وبوجود الملائكة يعتبرون مكذبين بخبر الله, فلا يدخلون في الآية رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
مسألة>